لا فضل لأحد على غزة: ثمن الصمود المشترك ووحدة الجسد المقاوم
ويفا البدوي – كاتبة صحافية
إن الحديث عن “فضل” أو “مِنّة” على قطاع غزة في سياق المواجهة الأخيرة هو تبسيط مخل للصراع وتجاهل للتضحيات الجسام التي قدمتها قوى الإسناد والحلفاء. إن معركة “طوفان الأقصى” وما تلاها من جبهات إسناد مفتوحة كشفت عن عقيدة جيوسياسية تقوم على وحدة الجسد المقاوم، حيث دفع كل جزء من هذا المحور ثمنًا باهظًا. غزة لم تكن متلقية للمساعدة فحسب، بل هي قاطرة الصراع التي استنهضت تضحيات الحلفاء وأعادت رسم خريطة المواجهة الإقليمية.
الجذور العميقة: لماذا انطلق الطوفان؟ (ما قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023).
لم تكن عملية “طوفان الأقصى” حدثًا مفاجئًا، بل كانت نتاجًا طبيعيًا لتراكم عقود من المعاناة، مثلت الأسباب الجذرية لانطلاقها:
- اتفاقيات أبراهام ـ التطبيع: شكّلت “اتفاقيات أبراهام” ومسار التطبيع حد الدوافع الرئيسية لعملية “طوفان الأقصى”، إذ نظرت المقاومة الفلسطينية إلى هذا التوجه الإقليمي على أنه محاولة خطيرة لـطمس القضية الفلسطينية ودفنها نهائيًا. فمن خلال التطبيع بين “إسرائيل” ودول عربية وإسلامية دون شرط التوصل إلى حل عادل أو إقامة دولة فلسطينية. شعرت “إسرائيل” بأنها لم تعد بحاجة لإنهاء احتلالها أو تقديم أي تنازلات، خصوصا أن مسار التطبيع دفن “مبادرة السلام العربية” التي أقرتها قمة بيروت عام 2002، مما زاد من وتيرة الانتهاكات، وتوسع الاستيطان والاعتداءات على المسجد الأقصى، وأغلق بذلك أي أفق لحل سياسي. بالتالي، جاءت عملية “طوفان الأقصى” كرد فعل حاسم وضروري لتغيير هذه المعادلة، وإعادة فرض القضية الفلسطينية كمركز للصراع الإقليمي والدولي التي لا يمكن تجاوزها أو تهميشها، وتوجيه ضربة استراتيجية لمشاريع التطبيع الهادفة إلى عزل الفلسطينيين.
- الحصار المنهك: استمرار الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007، ما حوّلها إلى سجن مفتوح، ودفع بغالبية سكانها إلى الاعتماد على المساعدات، مما أدى إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة.
- التصعيد الإسرائيلي في القدس والأقصى: الانتهاكات المتكررة لحرمة المسجد الأقصى المبارك ومحاولات التقسيم الزماني والمكاني، بالإضافة إلى تسريع وتيرة الاستيطان والاعتداءات في الضفة الغربية والقدس، كما حدث في حي الشيخ جراح، ومحاولة تهجير السكان الأصليين عام 2021.
- ملف الأسرى: الاستخفاف الإسرائيلي بآلاف الأسرى الفلسطينيين والاعتقالات الإدارية التعسفية، وهو ملف اعتبرته المقاومة أولوية قصوى لكسر الواقع وتحقيق كرامة الشعب الفلسطيني، خصوصا مع رفع مستوى التضييق الأسرى وذوييهم مع قدوم حكومة نتنياهو الاكثر تطرفا .
هذه الأسباب مجتمعة فرضت معركة “الطوفان”، لتكن عملية دفاع عن وجود وحقوق لا يمكن التنازل عنها.
وحدة الجسد المقاوم: علاقات وتنسيق ما قبل الطوفان.
قامت جبهات “محور المقاومة” على تنسيق استراتيجي وعقيدة مشتركة قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، حيث كان الدور يتوزع كالتالي:
- إيران دعم لوجستي وعسكري متقدم: توفير الدعم المالي والتقني الذي مكن المقاومة في غزة من تطوير قدراتها الصاروخية ومكنها من الإنتاج المحلي للذخائر، مما عزز قدرتها على الصمود الطويل والردع.
- لبنان (حزب الله) بناء الخبرات القتالية: نقل الخبرات العسكرية التكتيكية والقتالية المكتسبة من مواجهات سابقة، ورفع مستوى التنسيق الأمني والعسكري ورسم سيناريوهات مواجهة كبرى قد تاقع، بعد تحديد نقاط القوة والضعف المشتركة.
- العراق واليمن التعبئة الإقليمية: التأكيد المستمر على أن فلسطين هي القضية المركزية والاستعداد للانخراط في أي معركة كبرى قادمة، ما مهد لحرب الإسناد لاحقًا وأرسى قواعد التفاعل الإقليمي الفوري.
هذا التنسيق المسبق هو الذي مكّنهم من الانخراط الفوري والفعال في حرب الإسناد بفاعلية وتنسيق تكتيكي عالٍ.
الثمن الباهظ: تفاصيل حروب الإسناد والشراكة في التضحية
لقد دفع الحلفاء ثمنًا هائلًا، يؤكد أنهم يخوضون حربًا واحدة، وليسوا مجرد مساندين. - لبنان (حزب الله): الإسناد الشمالي الذي دفع بالدم القيادي
دخل حزب الله المعركة مباشرة عبر “جبهة الإسناد” الجنوبية، بهدف تشتيت تركيز جيش الإحتلال الإسرائيلي في حربه على غزة وإجبارها على إبقاء فرق كاملة عند الجبهة الشمالية. كان الثمن المدفوع غير مسبوق: - الخسارة البشرية والقيادية الجسيمة: سقط آلاف الشهداء من كوادر ومقاتلي الحزب والمدنيين وآلاف الجرحى. الأهم هو أن “إسرائيل* استهدفت بشكل متكرر قيادات وكوادر عسكرية عليا وبارزة في الحزب. هذه الاغتيالات للقيادات مثلت الخسارة الأثمن والأكثر كلفة، إذ أنها استهدفت العقل المدبر والخبرة القتالية المتراكمة للمقاومة، ما يعتبر تضحية لا تُقدر بثمن.
- إستهداف الجنوب والضاحية والبقاع: أدى القصف الإسرائيلي العنيف إلى تدمير العدد الأكبر من قرى الحافة الأمامية، وتشريد عشرات الآلاف من العائلات. كما تعرضت مناطق في الضاحية الجنوبية والبقاع لاستهدافات مباشرة طالت منازل ومنشآت، مما ضاعف الخسائر المادية التي قُدرت بمليارات الدولارات.
- قدم (حزب الله) الأمين العام سماحة السيد حسن نصرالله وخليفته السيد هاشم صفي الدين شهيدين على طريق القدس، وقد اغتيلا مع قادة آخرين في غرف العمليات أثناء إدارتهما الحرب.
- اليمن: حرب البحار واستهداف المراكز الحيوية.
قامت اليمن بخطوة غير مسبوقة بفرض حصار بحري على السفن المتجهة إلى “إسرائيل” عبر البحر الأحمر وباب المندب والبحر العربي وخليج عدن، وهو إسناد مؤثر عالميًا: - عمليات البحر الأحمر: استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل أو المتجهة إليها، مما أدى إلى اضطراب سلاسل الإمداد العالمية وتأثير مباشر وخطير على اقتصاد الاحتلال وملاحة شركائه الغربيين، وأجبر شركات شحن كبرى على تغيير مسارها.
- القصف الجوي الغربي وتدمير المراكز: ردت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل بشن غارات جوية كثيفة استهدفت مراكز حيوية ومواقع حكومية، أبرزها: مراكز القيادة والتحكم في العاصمة صنعاء والحديدة، والبنية التحتية الرادارية والاتصالات اللازمة لإدارة العمليات البحرية.
- تعرضت مناطق مدنية للقصف، مما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين والعسكريين.
- اغتيال الكوادر الحكومية: تم تسجيل حوادث استهداف مباشر لكوادر حكومية رفيعة المستوى من قبل الاحتلال وحلفائه، ما يمثل ثمنًا إضافيًا لتدخلهم المباشر.
- العراق (المقاومة الإسلامية): الإسناد اللوجستي واستهداف العمق
انخرطت فصائل المقاومة الإسلامية في العراق في حرب الإسناد عبر إطلاق المسيرات والصواريخ مستهدفة قواعد عسكرية أميركية في العراق وسوريا، ومواقع إسرائيلية في الجولان والعمق الفلسطيني.
*استهداف القواعد الأميركية: كان الهدف الاستراتيجي هو الضغط على الوجود الأميركي في المنطقة لإجباره على وقف دعم “إسرائيل” في عدوانها على غزة، ما وضع القوات الأميركية في حالة تأهب قصوى.
- القصف المباشر للعمق: تنفيذ عمليات باستخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ بعيدة المدى استهدفت مواقع استراتيجية وحيوية للاحتلال، الأمر الذي دفع بالاحتلال لرفع مستوى الدفاعات الجوية على الجبهة الشرقية.
- الخسائر الميدانية: تكبدت هذه الفصائل شهداء وجرحى نتيجة للردود الأميركية على قواعدها، مؤكدة دفعها لثمن الدم المباشر في سبيل إسناد غزة، ورغم وقف المقاومة العراقية لاستهداف القواعد الأميركية إلا أنها واصلت استهداف العمق الإسرائيلي واوقعت قتلى في صفوف جيش الإحتلال كما حصل في أحد القواعد العسكرية في الجولان السوري المحتل.
- إيران: الدخول في المواجهة المباشرة
بعد سلسلة من الانتهاكات الإسرائيلية واغتيال قيادات عسكرية رفيعة في دمشق، تصاعدت المواجهة بشكل غير مسبوق: - نفذت إيران ردًا صاروخا واسع النطاق شمل إطلاق مئات الطائرات المسيّرة والصواريخ اتجاه أهداف عسكرية إسرائيلية، وهو أول هجوم مباشر من الأراضي الإيرانية على الكيان. هذا الرد الذي أطلق عليه عملية الوعد الصادق الأولى رفع سقف المخاطرة ووضع المنطقة على شفا حرب شاملة، وكذلك عند تنفيذ طهران عملية الوعد الصادق الثانية ردا على اغتيال الشهيدين اسماعيل هنتية والسيد حسن نصرالله، وهو ما يؤكد على شراكة الدم لا مجرد الدعم.
الخلاصة: لا فضل لجزء على جسد واحد.
إن حجم التضحيات التي قدمها كل طرف، من القيادات العليا إلى تدمير البنى التحتية وصولًا إلى مخاطر الحرب الشاملة، يجعل من فكرة فضل أي جهة على غزة فكرة باطلة ومغلوطة.
كيف يكون لأحد فضل على غزة وغزة واليمن ولبنان والعراق وإيران هم جسم مقاوم واحد؟!. - وحدة التكلفة: دفع كل طرف من المحور تكلفة باهظة ومباشرة في أرواح قادته وأمنه، وهو ما ينفي مفهوم التبعية أو المساعدة الخارجية.
- تكافل الدم والمصير: إن ما حدث يسمى تكافل الدم والمصير المشترك. غزة، بقرارها خوض الطوفان، استنهضت الجسد كله، وكل طرف دفع الثمن الكبير والذي لا زالت آثاره شاخصة حتى اليوم.
- المساواة في التضحية: إن الذي يخسر قياداته في الجنوب، أو تُقصف منشآته في صنعاء، أو يتعرض لأعلى درجات المخاطرة، هو شريك أصيل في الصراع، وينظر إلى صمود غزة كصمود مشترك لا كفضل يُطلب عليه الشكر.
- المنطلق الإيماني يوجب الثمن: هذه التضحيات الجسيمة، التي تجاوزت حدود الدعم السياسي والعسكري لتصل إلى الاستنزاف النوعي والقيادي، لم يكن ليتم قبولها لولا أن المنطلق الإيماني لدى هذه القوى جعل من قضية فلسطين قضية مركزية لا تقبل المساومة.
- الإيمان بالقضية هو المحور الموحد: إن الإيمان المطلق بقدسية هذه القضية، وعلى رأسها تحرير القدس والمسجد الأقصى، هو العنصر الوحيد الذي يفسر تحمّل هذه الأطراف لهذا الثمن الباهظ. هذا الإيمان هو الذي يحوّل المحور العسكري إلى جسد عقيدي واحد، حيث لا يمكن لجزء أن يمنّ على جزء آخر، بل إن الجميع يؤدي واجبه المقدس.
هذه المقاربة تثبت أن حروب الإسناد كانت جزءًا أصيلًا من الحرب الكبرى التي خاضتها هذه الأطراف كلها بإرادة واحدة وتضحية موحدة، لتأكيد عقيدة أن العدوان على أي جزء من هذا الجسد المقاوم هو عدوان على الكل.
“إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بُدَّ أن يستجيب القدر”
(أبو القاسم الشابي)




