تكتيك الأرض المحروقة المتجدد: إسرائيل تحارب “إعمار الوجود” في جنوب لبنان
الواقع | ويفا البدوي ـ كاتبة صحافية
تجاوزت الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية على جنوب لبنان حدود الأهداف العسكرية كما كانت تزعم، لتستقر ضمن إطار جديد يهدف إلى شلّ مقوّمات الحياة والتعافي المدني. لم يعد القصف موجهاً فقط نحو الأهداف العسكرية، بل أصبح يركز على تدمير “بنية الصمود” الاقتصادية والإنشائية، في استراتيجية ممنهجة لعرقلة إعادة الإعمار وإحكام سياسة الإفراغ القسري للمنطقة.
الهندسة المعكوسة: استهداف أدوات البناء
يكمن جوهر الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة في تدمير القدرة الذاتية للمجتمع الجنوبي على النهوض من تحت الركام. فالأهداف التي طالتها الغارات مؤخراً لم تكن محض مصادفة؛ لقد شملت مصانع الإسمنت والخرسانة، وورش الحدادة والإنشاءات، وآليات العمل الثقيلة كالجرافات والرافعات، وصولاً إلى استهداف المهندسين المدنيين والكوادر المحلية المسؤولة عن تقييم الأضرار وبدء أعمال الترميم.
هذا التكتيك هو بمثابة “هندسة معكوسة” تهدف إلى تعطيل عملية إعادة الإعمار في مراحلها الأولية والجوهرية. فعندما يُحرم السكان من مواد البناء أو الآلات اللازمة لإزالة الأنقاض وترميم منازلهم، تتعطل حتمًا عجلة العودة، وتتفاقم أزمة النزوح الداخلي، ليتحول القصف العسكري إلى أداة لفرض حصار تنموي طويل الأمد.
الرسالة الإسرائيلية: خنق الحياة لا محاربة المقاومة فقط
تبرر “إسرائيل” استهدافاتها بالادعاءات الأمنية، مصورةً كل منشأة مدنية أو مبادرة إنمائية على أنها “واجهة إرهابية”. هذه الذرائع الأمنية الواهية، التي طالت حتى الجمعيات البيئية والمشاريع الزراعية، تكشف عن هدف أعمق:
تدمير البيئة الحاضنة للوجود والتعافي.
إن استهداف مخازن الوقود أو شبكات المياه التي تخدم القرى المدنية يمثل ضغطاً مباشراً على السكان، يرمي إلى جعل الحياة في الجنوب مستحيلة اقتصادياً واجتماعياً.
إن سياسة “الأرض المحروقة” المتجددة لا تسعى فقط إلى إيقاع الخسائر المادية، بل هي حرب نفسية واقتصادية تهدف إلى إحباط إرادة الصمود المتجذرة في هذا المجتمع. تراهن إسرائيل على أن إطالة أمد الخسائر الاقتصادية ستحول العودة إلى أمر مكلف ومستحيل، مما يسهل على المدى الطويل تحقيق هدفها في إفراغ الشريط الحدودي من سكانه الأصليين.
إعادة الإعمار كفعل مقاومة
في المقابل، يتحول فعل إعادة الإعمار في جنوب لبنان إلى عمل سيادي ومقاوم بحد ذاته. إن كل حجر يوضع، وكل طريق يُرمم، وكل أسرة تعود إلى قريتها، هو إعلان تحدٍ في وجه محاولات الاحتلال.
لذلك، يجب أن تكون الاستجابة اللبنانية لهذه الاعتداءات شاملة. لا بد من تفعيل مسار التحرك الدبلوماسي الرسمي لتوثيق هذه الجرائم أمام المجتمع الدولي، مع التركيز على الطبيعة التنموية البحتة للأهداف المدمرة. والأهم هو ضرورة أن تضع الحكومة اللبنانية خطة تنفيذية عاجلة وشفافة لدعم جهود الترميم، والاستثمار في البنى التحتية، لضمان أن تبقى إرادة البناء أقوى من آلة التدمير.
إن الصراع في جنوب لبنان هو صراع على الحق في الوجود والتعافي. فإذا نجح العدوان في عرقلة إعادة الإعمار، فإنه ينجح في فرض شروطه السياسية والأمنية. لذا، فإن الدفاع عن ورشة بناء هو اليوم دفاع عن السيادة، وتثبيت الوجود هو قمة المقاومة.




