مقاومة الواقع في جنوب لبنان: التحدي الإسرائيلي وعبء التهويل الإعلامي.
خاص الواقع | ويفا البدوي ـ كاتبة صحافية
جذور العدوان والاحتلال: سياق تاريخي مرير
إن واقع جنوب لبنان هو واقع متجذر في تاريخ طويل من الصراع والعدوان الإسرائيلي. لم يكن التوتر على الحدود الجنوبية وليد اللحظة، بل هو امتداد لسياسات توسعية بدأتها إسرائيل منذ قيامها. تُعدّ الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، التي تجاوزت مجرد المناوشات الحدودية لتصل إلى الغزو والاحتلال المباشر، هي الأساس الذي بنى عليه الجنوبيون نظرتهم للكيان كـعدو مطلق ومحتل للأرض.
تاريخ الجنوب حافل بالدماء والتضحيات، بدءاً من الاعتداءات التي سبقت عدوان عام 1978، مروراً بالغزو الكبير عام 1982 الذي وصل إلى العاصمة بيروت، وتأسيس ما عُرف بـ “الشريط الحدودي المحتل” أو “الحزام الأمني” لاحقا والذي استمر احتلاله حتى عام 2000. هذا الاحتلال الذي دام 22 عاماً، ترك ندوباً عميقة في الذاكرة الجمعية للجنوبيين، جاعلاً المقاومة خيارًا وجوديًا لا سياسيًا فقط. إن التحرير عام 2000 أثبت أن الاحتلال ليس قدراً، لكن حرب تموز 2006 وما تبعها من اعتداءات تؤكد استمرار النزعة العدوانية والتهديد القائم من قبل “إسرائيل”.
المخطط التوسعي الإسرائيلي والدور الأمريكي
لا يمكن فصل العدوان المتكرر عن المخطط التوسعي الإسرائيلي الذي يرى في استقرار لبنان وازدهاره تهديداً، ويسعى إلى فرض هيمنته الإقليمية. يتجلى هذا المخطط في:
- السيطرة على الموارد: خصوصاً المياه (مثل مياه نهر الليطاني) والنفط والغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان.
- التهجير كأداة ضغط: الهدف غير المعلن للعدوان هو إحداث دائم للخلل الديموغرافي وإبقاء المنطقة الحدودية في حالة فزع لـتفريغها من سكانها، مما يسهّل أي عملية عسكرية أو توسعية مستقبلية.
- ترسيم الحدود لمصلحتها: محاولات فرض أمر واقع على الحدود البرية والبحرية بما يخدم مصالحها الجيوسياسية والعسكرية.
في هذا السياق، يأتي الدور الأمريكي كداعم رئيسي لإسرائيل، وغالباً ما يُنظر إليه في الجنوب على أنه غطاء سياسي وعسكري للعدوان. من خلال الدعم اللامحدود لإسرائيل، واستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد أي إدانة حقيقية لانتهاكاتها، تصبح الولايات المتحدة شريكاً في إدامة حالة التوتر وتكريس العدوان. حتى الجهود الدبلوماسية الأمريكية اللاحقة تُفسر على أنها محاولات لـتثبيت المكاسب الإسرائيلية بعد كل جولة عدوان.
عبء السردية الإعلامية المروّجة للحرب والتهجير
يُشكّل السياق الإعلامي المُهيمن عبئًا ثقيلاً إضافياً على كاهل سكان الجنوب. هنا يبرز الدور الذي تلعبه بعض وسائل الإعلام و”الخبراء” و”الإعلاميين” الذين يتبنون خطاباً مبالغاً فيه ومُشبعاً بـفوبيا الحرب والتهجير: - التهويل المستمر: مع كل تصعيد محدود أو عملية استهداف، حتى لو كانت روتينية في سياق منطقة صراع، تهرع هذه الوسائل إلى ترويج سيناريوهات “الحرب الكبرى الحتمية” و”التهجير الشامل”. يُحوّل هذا الخطاب أي اعتداء إلى نذير شؤم وكارثة قادمة.
- تغييب صوت الصمود: يتم التركيز بشكل مُفرط على حالة القلق والخوف (وهي حقيقة لا يمكن إنكارها) مع تغييب صوت الصمود والمقاومة المدنية والتمسك بالأرض الذي يُشكّل جزءاً أصيلاً من هوية الجنوب. يُصوَّر الأهالي كضحايا ينتظرون المصير بدلاً من كونهم أصحاب قرار في البقاء.
- خدمة الأجندة الإسرائيلية (من حيث لا يدري): إن الترويج المستمر لـ”التهجير القادم” يخدم عملياً أحد الأهداف الإسرائيلية الرئيسية، وهو تفريغ المنطقة. هذا الخطاب، وإن جاء بدعوى “التوعية”، يتحول إلى ضغط نفسي هائل يدفع الناس -خاصة الفئات الشابة والأكثر عرضة للتأثير الاقتصادي- إلى البحث عن سُبل للمغادرة الدائمة.
- إرهاق الناس: باتت هذه السردية الإعلامية المتكررة عن الحرب القادمة بمثابة “ذئب ذئب” إعلامي، يفقد مصداقيته بمرور الوقت، لكنه في الوقت ذاته يُرهق الأهالي نفسياً واقتصادياً. يعيش الناس في حالة تأهب دائم لا تنتهي، مما يعطّل حياتهم اليومية وفرصهم الاستثمارية والتعليمية.
الجنوب: من منظور الصمود والتمسك بالأرض
من وجهة نظر الجنوبيين، فإن إسرائيل هي العدو الذي لم ينسحب كاملًا من نفوسهم، ولم يرفع تهديده عن أرضهم. يرى الأهالي أن التمسك بالأرض ليس مجرد خيار، بل هو خط الدفاع الأول والأخير أمام المخطط التوسعي والتهجيري.
إن الرد على العدوان ليس مقتصراً على المواجهة العسكرية، بل هو أيضاً في إصرار المزارع على حراثة أرضه، وإصرار الطالب على الذهاب إلى مدرسته، وإصرار العائلات على بناء منازلها حتى عند الحدود. هذا الصمود يُفشل رهان العدو والإعلام المُضخّم الذي يراهن على الفزع والفرار.
إن واقع جنوب لبنان هو مزيج معقد من الخطر الحقيقي الذي يمثله العدو المحتل، والصمود الشعبي العميق الجذور، والإرهاق من خطاب إعلامي لا يرى في المنطقة سوى “جبهة حرب تنتظر أن تشتعل”، متجاهلاً روح الحياة والمقاومة المدنية المستمرة في وجه كل التحديات. الجنوب اليوم، يعيش ليُثبت أن البقاء على الأرض هو الانتصار الأكبر.




