السودان: حرب الإبادة والحصانة الدولية..
خاص الواقع | ويفا البدوي – كاتبة صحافية
الجذور الخبيثة: دور نظام البشير في صناعة الوحشية
لا يمكن فهم الصراع الحالي دون استيعاب الدور المحوري الذي لعبه نظام الرئيس المعزول عمر البشير في تأسيس وتغذية قوات الدعم السريع. هذا يضع المسؤولية التاريخية عن هذه الحرب على عاتق النظام القديم.
صناعة الميليشيا: قام نظام البشير بتسليح ميليشيات الجنجويد (التي ظهرت عام 2003) لقمع التمرد في دارفور، حيث ارتكبت جرائم وصفت بأنها ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
تبييض الإجرام: في عام 2013، شرّع نظام البشير هذه الميليشيات وحولها إلى قوة نظامية باسم قوات الدعم السريع (RSF)، ومنحها قانوناً خاصاً في 2017 يعزز استقلالها عن الجيش. هذا التبييض منح قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) حصانة سياسية وعسكرية، ومكّنه من بناء إمبراطورية اقتصادية ضخمة.
إمبراطورية الذهب: استغل حميدتي علاقته بالنظام لتأمين السيطرة المطلقة على مناجم الذهب في السودان. وتشير تحقيقات (مثل ما نشرته رويترز في 2019) إلى أن هذه الثروة هي المصدر الأساسي لتمويل قواته المرتزقة. هذا التحكم بالمال هو جوهر الصراع الحالي.
- التشابك الجيوسياسي: المصالح الدولية وأهداف الداعمين
السودان، بموقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر وحوض النيل، هو نقطة جيواستراتيجية تُغذي الحرب بالدعم الخارجي وتنافس المصالح.
البحر الأحمر والصراع على النفوذ:
البحر الأحمر هو شريان حيوي للتجارة العالمية. أي زعزعة للاستقرار في السودان تُهدد الملاحة وتمنح القوى الإقليمية فرصة لترسيخ نفوذها على الساحل السوداني.
يسعى كل من الجيش والدعم السريع للسيطرة على بورتسودان ومناطق الشرق، فسيطرة الجيش على الموانئ تُعزز من شرعيته كدولة، بينما سعي الدعم السريع للوصول إلى البحر الأحمر يُعزز من قدرته على الإمداد الخارجي.
الدعم الإقليمي والدافع الاقتصادي:
الإمارات العربية المتحدة: تعد الإمارات لاعباً رئيسياً ومركزاً مالياً لـ ذهب حميدتي. تشير تقارير وتحقيقات دولية إلى أن الإمارات كانت تستفيد من تجارة الذهب السوداني وتُتهم بتوفير دعم لوجستي وإمدادات عسكرية لقوات الدعم السريع عبر دول وسيطة. الدافع الأساسي هو ترسيخ النفوذ الإقليمي وضمان تدفق الثروة. (موقف الإمارات): أصدرت الإمارات بياناً رسمياً استنكرت فيه المجازر والانتهاكات الواسعة، خاصة في الفاشر، مؤكدة على ضرورة وقف إطلاق النار. ومع ذلك، يشدد المراقبون الدوليون على أن الموقف يجب أن يتبعه تجميد فوري لأصول الشركات التابعة لحميدتي ووقف أي تدفقات لوجستية لقطع شريان الحرب.
المملكة العربية السعودية: لعبت السعودية دوراً رئيسياً في قيادة محادثات جدة بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي هدفت إلى التوصل لوقف إطلاق نار. لم تُتهم السعودية بالانخراط في دعم عسكري مباشر لأي طرف، بل ركزت على الدور الدبلوماسي كوسيط رئيسي لتأمين استقرار إقليمي ووقف القتال على حدودها الجنوبية. فشل محادثات جدة كان ضربة قوية لهذه الجهود.
مصر: تعتبر مصر الداعم الإقليمي التقليدي والأقرب للجيش، لأسباب تتعلق بأمن الحدود ومنع تدفق اللاجئين (حيث استقبلت أعداداً هائلة)، والتعامل مع مؤسسة عسكرية قوية في قضايا المياه (النيل) والاستقرار الإقليمي.
روسيا (فاغنر): أكدت تقارير استخباراتية دولية أن مرتزقة روس قدموا دعماً عسكرياً ولوجستياً كبيراً لقوات الدعم السريع مقابل الوصول إلى مناجم الذهب والمعادن. هذا الدعم مكّن حميدتي من مواصلة الحرب بتمويل ذاتي. - الانتهاكات والسيطرة: مأساة الفاشر وواقع الناس
تُظهر خريطة السيطرة تفتت الدولة، وتؤكد التقارير الدولية أن الوحشية ترتكب في المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع، خاصة في دارفور.
الفاشر.. ذروة الوحشية: تُمثل الفاشر، آخر معاقل الجيش الرئيسية في دارفور، نقطة تحول دموية. بعد حصار طويل، أدى اجتياح الدعم السريع للمدينة إلى مجازر موثقة. أكد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان على ضرورة التحقيق في تقارير موثوقة عن القتل الجماعي للمدنيين وتصفية المرضى في المستشفيات (منظمة أطباء بلا حدود أدانت الهجمات على المستشفى الوحيد العامل).
التهجير العرقي: حذر المبعوث الأمريكي الخاص للسودان من أن العنف يحمل دوافع عرقية خطيرة وقد يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، مما يدفع ملايين السودانيين للنزوح واللجوء (الأمم المتحدة تقدر عدد النازحين واللاجئين بنحو 12 مليون شخص).
واقع الناس المرير: يعيش السكان في مناطق سيطرة الدعم السريع (مثل أجزاء واسعة من الخرطوم والجزيرة) في حصار فعلي حيث تُمنع المساعدات الإنسانية أو تُسرق. وتواجه البلاد حالياً أكبر أزمة جوع في العالم، مع توقعات بإعلان المجاعة في خمس مناطق على الأقل، وفقاً لـ منظمة العفو الدولية، بسبب القتل والحصار والعنف الجنسي الذي يُستخدم كسلاح حرب. - الموقف العالمي: التردد الأمريكي والتغافل المتعمد
يتفق المراقبون على أن الاستجابة الدولية لحجم الكارثة كانت قاصرة وتفتقر إلى الإرادة السياسية الحقيقية.
الولايات المتحدة الأمريكية: رغم تصريحات الإدانة وفرض العقوبات على قادة الأطراف، اتسم التحرك الأمريكي بـ البطء والتردد. فشل المبعوث الأمريكي الخاص في تحقيق أي اختراق دبلوماسي، ووجهت واشنطن انتقادات لجهودها نفسها بأنها لا تتجاوز “إدارة الأزمة”. يرى النقاد أن واشنطن ترفض اتخاذ خطوات عقابية حاسمة لقطع التمويل والأسلحة، خوفاً من تعقيدات التدخل في صراع إقليمي متشابك.
التقاعس المتعمد: هناك شعور واسع بين السودانيين بأن العالم يتغافل عمداً عن مأساتهم. وقد أدى هذا الصمت إلى منح قوات الدعم السريع “الضوء الأخضر” لتحدي القوانين الدولية والاستمرار في وحشيتها، كما حذرت الحكومة السودانية مراراً. - الخلاصة : العدالة أولاً
إن الوحشية التي يمارسها حميدتي وقواته في الفاشر وغيرها ليست عملاً عشوائياً، بل هي نتاج ثقافة الحصانة التي زرعها نظام البشير ودعمها التنافس الدولي على الثروات.
لإيقاف هذه الحرب، يجب على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية والقانونية:
المساءلة الفورية: الضغط لتسليم حميدتي وقادة الدعم السريع إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
قطع شرايين التمويل: يجب اتخاذ إجراءات عقابية قاسية ضد أي كيان أو دولة تثبت مساهمتها في تمويل أو تسليح قوات الدعم السريع، وبدء حملة دولية لـ تجميد أصول الذهب المتدفقة من السودان.
إن العدالة للشعب السوداني الذي يعيش تحت الحصار والموت هي مفتاح إنهاء هذه الكارثة.




