أبرز الاحداثالواقع السوري

الذاكرة المنهوبة: في تغييب حقبة تاريخية وطمس عيد الشهداء في سوريا

ويفا البدوي – كاتبة صحافية

لطالما كان التاريخ، في الشرق الأوسط تحديداً، أداة طيعة في يد السلطة. فمع كل تحول جذري في الحكم، تُشهَر “ممحاة الذاكرة” لتمحو فصولاً، وتُبرز أخرى، وتُعيد صياغة السردية الوطنية. وفي سوريا ما بعد عام 2011، ومع انهيار النظام القديم وصعود هيكلية حكم جديدة، تبرز عملية “طمس التاريخ” كفعل ممنهج لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، لا بوصفها إصلاحاً، بل بوصفها “تغييباً” لحقبة واستبدالها بنصوص شرعية مفبركة.
إن جوهر هذا الطمس ليس مجرد خلاف على تفسير الأحداث، بل هو إلغاء لرموز الوحدة الوطنية التي لا تتوافق مع الأجندات الجديدة والتحالفات الإقليمية المستجدة. وتظهر هذه العملية في ثلاثة مستويات مترابطة: تغييب الحقبة المنهارة، وتكييف التاريخ مع الأطراف الداعمة، وإحلال رموز جديدة.
الذاكرة الوطنية تحت مقصلة التكييف السياسي
إن الخطوة الأكثر إثارة للجدل، والأشد خطورة على الهوية السورية، هي إلغاء عطلة عيد الشهداء (6 أيار/مايو). هذا اليوم ليس مجرد مناسبة عابرة؛ إنه حجر الأساس في الذاكرة الوطنية الحديثة لسوريا ولبنان.
عيد الشهداء هو تخليد لذكرى إعدام رواد الصحوة القومية العربية على يد الوالي العثماني جمال باشا السفاح عام 1916. لقد سقط هؤلاء المناضلون دفاعاً عن فكرة الاستقلال والسيادة العربية، وكان دمهم هو المداد الأول الذي كُتبت به صفحات الدولة السورية المستقلة.
لماذا يُطمس 6 أيار؟
إن إزالة هذا العيد من التقويم الرسمي هو بمثابة تطهير رمزي يُراد منه محو تاريخ الصراع ضد الهيمنة التركية العثمانية. ويأتي هذا الفعل لسببين رئيسيين:

  • المواءمة مع الحليف التركي: في ظل الدعم الواسع الذي تتمتع به الحكومة الجديدة من تركيا، تُعتبر هذه الخطوة محاولة لـ “تغسيل” العلاقة الثنائية من أي ذكرى لـ العداء التاريخي. إن الاحتفال بعيد الشهداء هو تذكير سنوي بـ الاستبداد العثماني الذي يُنظر إليه من منظور القومية العربية كاحتلال؛ وهو ما يتعارض مع مصالح التحالف الاستراتيجي الراهن. هذا الإلغاء هو رسالة واضحة: “تاريخنا القومي لن يعرقل تحالفنا السياسي”.
  • إعادة تعريف العدو: بدلاً من تثبيت العدو التاريخي في “الباب العالي”، يتم توجيه السردية بالكامل نحو الحقبة الأسدية المنهارة، وبذلك يتم إطفاء جذوة الذاكرة القومية التي قد تتعارض مع المصالح الجيوسياسية الراهنة. إن هذا التنازل عن رمز وطني بهذه القيمة هو صفقة سياسية خاسرة للهوية السورية.
    تغييب الحقبة المنهارة ومسح رموزها
    بالتوازي مع طمس عيد الشهداء، تأتي عملية “تغييب” للحقبة المنهارة، والتي تتجسد أيضاً في إلغاء أعياد مثل عيد تشرين (6 تشرين الأول/أكتوبر):
  • إلغاء الأعياد المؤسِّسة للنظام القديم: قرار إلغاء مناسبات مثل عيد تشرين، الذي ربط النظام السابق وجوده بـ “الانتصار” القومي، هو محاولة لـ تجفيف منابع الإيديولوجية البعثية في الذاكرة الجمعية. هذا فعل سياسي ضروري للسلطة الجديدة، لكنه يجب أن يتم عبر إحلال سردية وطنية أكثر شمولاً، لا عبر المزايدة على تضحيات الشعب.
  • تشويه الرموز بشكل مطلق: إن التركيز على إظهار الفساد والإجرام بشكل حصري ومطلق في الحقبة الماضية، يُعدّ عملية “تغييب” تمنع أي تقييم موضوعي لتلك المرحلة، وتُغلق الباب أمام أي اعتراف بالإيجابيات (إن وجدت) لصالح بناء جدار عازل بين الماضي والحاضر.
    سوريا الشامخة.. الذاكرة لا تُمسح بالكامل
    نريد سوريا حقيقية حرة بكل تفاصيلها وسردياتها لا يطمس فيها أي من وريقات تاريخها الحافل والذي لو لم تمر به سوريا لما صمدت وكانت سوريا دولة حرة مستقلة إلى يومها.
    إن التضحية بالذاكرة الوطنية خدمة لأجندة سياسية عابرة هو بحد ذاته فعل استبدادي. فالتاريخ ليس أداة مطاطية بيد الحاكم، بل هو وعاء الوجود الجمعي.
    سوريا ستبقى كما عهدناها لن تستطيعوا تشويه التاريخ فقط لأنكم تريدون نبذ حاكم مر في تاريخها. الحكام تتعاقب على سلطتها وتزول وتبقى سوريا شامخة بكل تفاصيلها.
    التاريخ الذي يُطمس بالقوة لا يختفي؛ بل يتحول إلى ذاكرة مقاومة تنتظر شرارة لتعود وتشتعل. إن واجب الحكومة الانتقالية هو بناء جسور للذاكرة، لا هدمها، عبر احتضان كل الفصول التي ضحى فيها السوريون من أجل استقلالهم وسيادتهم، بدلاً من التنازل عنها لأجل حسابات سياسية عابرة. إن التخلي عن شهداء 6 أيار هو تخلٍّ عن جزء أساسي من روح سوريا الحرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى