عيد الفطر في حلب .. موسيقى “الطرطقة”!
ويفا البدوي – كاتبة وإعلامية | خاص – الواقع
أطل عيد الفطر السعيد. وأخذني الحنين إلى ذكرياته سابقاً في سورية الحبيبة. كانت مراسم العيد “التحضيرات” تبدأ في الأسبوع الأخير من شهر رمضان المبارك. هناك، في محافظة “حلب” النساء يستعدنّ لحملة تنظيف منازلهنّ “التعزيل – تعزيلة العيد” وإن كان المنزل نظيفاً لابد من تلك “التعزيلة “. كانت تصفها جدتي بأنها “رهجة العيد”. بعد “الرهجة” يبدأ تحضير “المعمول وكعك العيد” المنزلي. كانت جدتي تحضر القوالب الخشبية التي تنقش بها قطع المعمول تلك. القوالب التي ورثتها عن أمها وعمرها يزيد عن المئة عام، هي عبارة عن قوالب سميكة، لها يد طويلة تمسك بها، وذات رأس دائري، وبعضها بيضاوي. فيه قعر منقوش، توضع به كرات العجين المحشوة ب” “العجوة” أي “عجينة التمر”، وتضغط بلطف، بأصابع اليد، ثم يطرق على حواف القالب طرقتان وتسقط قطعة المعمول المنقوشة.
القالب ذو القعر الدائري يستخدم لأقراص معمول التمر، فيما ذو القعر المستطيل أو الهرمي يستخدم لمعمول الفستق الحلبي والجوز .
حشوة التمر، كانت لذيذة. كانت جدتي تخرج نواة التمور ثم تطحنه وتعجنه بالسمن الحيواني مع إضافة الهيل وماء الزهر والورد والقرفة والقرنفل. تعجنهم ثم تشكلهم كرات صغيرة لتصبح عجينة التمر جاهزة للحشو .
أما “حشوة الجوز والفستق” كانت تضع كل منهم على حدة وتمزج كلاهما بماء الزهر وجوز الهند والقطر والقرفة ثم تبدأ عملية الحشو وتليها مرحلة الخبز في الفرن . كانت تطحن السكر وتزين فيه معمول الجوز والفستق .
أما كعك العيد المالح كانت تعجنه بماء الجبن المالح وحبة البركة ويقدم بجانبها “الناطف” الحلبي، شيء لذيذ يغمس فيه الكعك .
كنت أعشق سمفونية الطرطقة، “طرقة القالب الخشبي على طاولة الخشب”، أثناء نقش قطعة المعمول. بالنسبة لي العيد هي تلك الأجواء، ونادراً ما تمرُّ من أزقة حلب الشهباء دون أن تسمع موسيقى الطرطقة التي تنعش الروح بالتزامن مع روائح خبز المعمول الشهية التي تفوح من كل بيت هناك .
يالها من طقوس رائعة في يوم العيد، أثناء الزيارات لتبادل التبريكات بحلول العيد السعيد، ترى في كل منزل طاولة يوضع عليها المعمول والحلويات و”زبادي” المهلبية والرز بحليب وسلة الضيافة الحلبية “المضيَفة” يوضع فيها الشوكلاته والملبس المحشو باللوز والراحة المعجونة بالفستق الحلبي والنوغا .
ما إن ترى تلك الطاولة، حتى تذكر موسيقى الطرطقة والروائح التي كانت تفوح قبيل العيد عندما تتذوقها تذوب في فمك لأنها صُنِعت بحب .
عندما يحين وقت انتهاء الزيارة يقسم عليك أصحاب المنزل أن تأخذ من سلة الضيافة (المضيفَة)، ويقولون لك “ضيافة حلبية” أي أنه عليك أن تأخذ من كل الأصناف، فقط الحلبيون يعلمون معنى “ضيافة حلبية” .
عندما كنا نعود للمنزل مساءً، كانت حقيبتي تكاد تتمزق من ثقلها لأنها تكون قد امتلأت بالضيافة .
أسفي على هذا جيلنا الذي لايعرف ذاك المعمول، الذي صنع بحب ولا في ذاكرته “سمفونية الطرطقة” ولم ير جدته وهي تنخل القمح وتعجن وتعد ذاك الصنيع. بات كل شيئ جاهزا بلا رهجة .
قبل عام ذهبت إلى حلب وقصدت زيارة بيت جدتي القديم الذي كان يشرف على قلعة حلب الشهباء، لم يبق من بيتها الدافئ الكبير الذي كان يسع الجميع إلا آثاراً، لأنه دمر وحرق بفعل الإرهاب. أبكاني ذاك المشهد، لقد احترقت “قوالب” صنع المعمول، التي كان عمرها يزيد عن المائة عام، ورحلت جدتي الطيبة دون أن تعلم أن بيتها القديم حل به كل ذاك الدمار كانت تعاني “الزهايمر” .. لم يبق لي إلا الذكريات .
ذهبت إلى أسواق حلب القديمة، وجدت قوالباً، لكنها جديدة، فارغة من رائحة الدهن، لم تلمسها جدتي بيديها النقيتان. اشتريت قالبين لصنع المعمول، وقررت أن أصنع “المعمول”، وأبدأ ببناء ذاكرة جديدة، عل أبنائي مستقبلاً يعيشون الذكرى، وعلني أورثها لابنتي، لتورثها لحفيدتي، فأترك شيئا من الحب لهم يتوارثوه كما ورثت عن جدتي التي أورثتنا إرثاً جميلاً لا يمكن أن يموت.
فطر سعيد وكل عام وأنتم بخير.